الاستاذ عبدالباري عطوان
عن القدس العربية
حرب 'صعدة' والجوار العربي
عبد الباري عطوان
تتواصل المعارك الطاحنة في منطقة صعدة الحدودية اليمنية بين القوات الحكومية المعززة بالطائرات والدبابات وحركة الحوثيين المتمردة التي تريد اعادة حكم الإمامة الى اليمن.
هذه المعارك بدأت منذ عدة سنوات، ودخلت مرحلة حسم دموية شرسة في الاسابيع الاخيرة، حيث تفيد تقارير اخبارية بوقوع مئات القتلى، وآلاف الجرحى، ولكن دون حدوث اي اهتمام حقيقي من الدول العربية او المنظمات الدولية بهؤلاء. ولا نبالغ اذا قلنا إن هناك 'مؤامرة' صمت اقليمية وعالمية، على هذه الحرب وضحاياها، وكأنهم ليسوا بشرا، او كأن الحرب تقع على كوكب آخر.
نحن هنا لا نناقش الجوانب السياسية لهذه الحرب، ولا ننحاز الى اي من وجهتي النظر، سواء الرسمية التي تتحدث عن محاولة لتشييع اليمن تدعمها ايران، ولا الى بيانات المتمردين التي تنفي ذلك، وتؤكد تورط دول الجوار في هذه الحرب، الى جانب الحكومة المركزية في صنعاء، ولكن نجد ان واجبنا العروبي والانساني الانحياز الى الضحايا الابرياء، الذين يدفعون ثمنا باهظا من ارواحهم ودمائهم في هذه الحرب، فهؤلاء بشر واشقاء لنا في الدم والعقيدة، ومن العيب ان لا نتعاطف معهم، او نلفت الانظار الى مأساتهم المتفاقمة.
التقارير الصحافية شبه المستقلة تفيد بان هناك اكثر من مئة وخمسين الف مواطن محاصرين مجوعين عالقين في مناطق المعارك، ولا يستطيعون الهرب بأرواحهم الى مناطق آمنة، ومعظم هؤلاء من النساء والاطفال، لان مناطقهم جبلية وعرة اولا، ولان الحصار محكم عليهم ثانيا، ولان المملكة العربية السعودية، الجهة الوحيدة الاقرب اليهم، اغلقت الحدود في وجههم.
لا نفهم لماذا تغلق المملكة حدودها في وجه هؤلاء المواطنين العرب المسلمين وتحرمهم من ملاذ آمن مؤقت ريثما تهدأ هذه الحرب، ويعودون بعدها الى ديارهم. فالمملكة العربية السعودية دولة غنية، كما ان مناطقها الجنوبية في جيزان ونجران هي اراض يمنية في الاساس ضُمت الى المملكة بمقتضى معاهدة الطائف، اي ان هناك تواصلا قبليا، وروابط قرابة بين اهلي صعدة ومواطني المناطق الحدودية السعودية المجاورة.
* * *
المملكة العربية السعودية فتحت حدودها امام المواطنين الكويتيين الهاربين من القوات العراقية التي اجتاحت بلادهم في آب (اغسطس) عام 1990، ووفرت لهم كل مقتضيات الضيافة اللائقة بهم، فلماذا لا تفعل الشيء نفسه لهؤلاء اليمنيين؟
ربما يجادل البعض بان السبب هو كون معظم هؤلاء من الزيديين الشيعة، اي انهم يعتنقون مذهبا مخالفا للمذهب السني الوهابي السعودي الغالب، ولكن هذا الجدل مردود عليه، فهناك سوابق تدحض هذه المسألة، مثل استقبال السعودية لحوالى ثلاثين الف جندي ومواطن عراقي لجأوا اليها اثناء 'حرب تحرير الكويت'، والغالبية الساحقة من هؤلاء هم من ابناء المذهب الشيعي، وقد غادروا جميعا معسكر 'رفحا' الصحراوي الذي اقيم لهم خصيصا في الصحراء، سواء الى العراق، او الى دول لجوء اوروبية، فلماذا لا يعامل ابناء اليمن معاملة هؤلاء؟ خاصة ان اليمن مرشح للانضمام الى منظومة مجلس التعاون الخليجي وبدعم سعودي؟
موقف معظم الحكومات العربية من مسألة اللجوء واللاجئين غريب، واحيانا يُستعصى على الفهم. فسورية التي استوعبت اكثر من مليون لاجئ عراقي في الاعوام الخمسة الماضية، وقبلهم حوالى مئتي الف فلسطيني يعاملون معاملة السوريين تماما، وفتحت حدودها وقلوبها امام نصف مليون لبناني فروا بأرواحهم من العدوان الاسرائيلي عام 2006، تضيق ببضعة مئات من اللاجئين الفلسطينيين المرابطين على حدودها مع العراق، والشيء نفسه تفعله الحكومة الاردنية. ولم يجد هؤلاء مهربا من العيش بين الثعابين والعقارب وسط الصحراء الموحشة الا في ملاذات آمنة في البرازيل والدنمارك وايسلندا.
ندرك جيدا ان استيعاب هؤلاء اللاجئين امر صعب ومكلف ماديا، خاصة في دول فقيرة مثل الاردن وسورية، ولكن ماذا عن المملكة العربية السعودية ودول الخليج الاخرى التي يدخل خزائنها سنويا حوالى 500 مليار دولار كعوائد نفطية، لماذا توصد هذه الدول ابوابها في وجه اللاجئين بهذه الطريقة القاسية؟ ولم نسمع انها استقبلت لاجئا واحدا او منحت اللجوء السياسي لاحد منذ محنة الاخوان المسلمين في الستينات؟
وربما يفيد التذكير بان المنظمات الدولية تتكفل بشؤون اللاجئين، وتسهر على رعايتهم في الحدود الممكنة، اي ان العبء المالي الذي تتحمله الدول المضيفة يظل بسيطا ويمكن تحمله، خاصة اذا كان هؤلاء اللاجئون اشقاء، من دول شقيقة، ينتمون الى العقيدة نفسها، ويؤمنون بالوحدة العربية ويتشوقون اليها. ام ان الوحدة والامة الواحدة مجرد شعارات؟
* * *
تظل هناك نماذج مشرقة لا نستطيع تجاهلها، مثل اليمن الفقير المعدم الذي يستضيف حوالى 800 الف صومالي على اراضيه، ولم نسمع مطلقا انه تذمر او اشتكى، بل حرص على ايواء كل من تقذفه امواج البحر من مهاجرين الى شواطئه رغم امكانياته المتواضعة. والشيء نفسه يقال ايضا عن السودان الذي وصل عدد اللاجئين فيه الى اكثر من اربعة ملايين لاجئ من اريتيريا وتشاد واوغندا ودول أفريقية اخرى، وتطوع مشكورا لاستيعاب مئات الاسر الفلسطينية العالقة على الحدود السورية ـ العراقية.
تاني.
المشكلة اننا نكرر دائما كعرب ومسلمين مدى تسامحنا، وترفعنا عن كل اشكال العنصرية والطائفية، ونضرب امثالا بآيات من قرآننا الكريم، وسنة نبينا محمد (ص) تؤكد ذلك، ولكن التطبيق العملي مخجل بكل المقاييس، فصورتنا امام العالم اننا قساة، عنصريون، دمويون في تعاملنا مع بعضنا البعض. فكيف يمكن ان نبرر للعالم ولأنفسنا ايضا اغلاقنا للحدود في وجه اللاجئين الفارين من الموت بأطفالهم؟ وكيف نفسر إقدام قوات الامن المصرية على اطلاق النار على اللاجئين الافارقة الذين يريدون التسلل الى اسرائيل بحثا عن ظروف معيشية افضل، بينما تستقبلهم اسرائيل بالحنان، والرعاية، والطعام والملابس، ومعسكرات الايواء المجهزة بطريقة انسانية لائقة؟ نحن نقتل الافارقة بالجملة حماية لاسرائيل، وبما يشوه صورتنا عالميا، واسرائيل تستقبلهم بصورة تحسّن صورتها، وتثبت للعالم بأننا همج ومتوحشون، قساة القلوب، هل هناك سذاجة وسوء تصرف اكثر من ذلك؟
نعود الى صعدة مجددا ونطالب بتدخل عاجل وسريع لوقف هذه الحرب اولا، وانقاذ ضحاياها من العسكريين والمدنيين، وبدفن الموتى بشكل لائق حتى لا تنهش جثثهم الذئاب والكلاب الجائعة، وبعلاج الجرحى في مستشفيات ميدانية، وتوفير ممرات آمنة للمدنيين الفارين بحياتهم ثانيا، فهؤلاء ضحايا لعبة امم اقليمية، ولا ذنب لهم فيما يحدث.
الصمت على مأساة صعدة والوقوف بموقف المتفرج هو عار على الانسانية، وعلى العرب بشكل خاص، يضاف الى رصيدهم المتضخم من العارات الاخرى وما اكثرها.